Tuesday, March 5, 2013

تبسيط المسائل



:قال العجوز الحكيم
أخطر شيئ يا صاحبى هو تبسيط المسائل و تلخيص الحياة فى نقطة و السعادة فى -
مطلب
يقول الواحد منا لنفسه .. لو أنى كسبت هذه الورقة اليانصيب لإنتهت جميع المشاكل
لو أنى تزوجت هذه المرأة لأصبحت أسعد إنسان
لو أنى هاجرت إلى أمريكا لحققت كل أحلامى .. لو أنى تخلصت من هذا المرض المزمن الذى ينغص على حياتى لصنعت من نفسى رجلا عظيما ..لو ..لو ..لو
و دائما تتبسط المسألة فى نقطة واحدة، و قديما تصور فرويد تبسيطا شديدا للنفس الإنسانية، فقام بتفسير جميع حوافزها و عقدها و انحرافاتها بالحافز الجنسى
و أخطأ فرويد 
و كان سبب الخطأ أن الحياة لا تقبل التبسيط، و أنها نسيج معقد متداخل من عدة عوامل
و إذا حاولت أن تبسطها فإنك تمزقها فى نفس الوقت
و لا شك أن كل الكائنات الحية هى فى النهاية و بتبسيط شديد "ماء و تراب" و لكن هل هى كذلك ....أبدا
إن التبسيط قتل الحقيقة ....و هذا ما يقع فيه كل إنسان منا حينما يتصور أن كل حياته تبدأ و تنتهى عند الحصول على هذه المرأة و إذا فقدها ضاعت حياته و إذا فاز بها فاز بنعيم الدنيا و الآخرة
و نتيجة هذه الرؤية التوحيدية المركزة تتوتر أعصابه فلا يعرف طعما لآكل أو نوم أو  راحة، ويسقط عليلا مثل مجنون ليلى و قد يبتلع أنبوبة أسبرين ليتخلص من عذابه
و لو أن مجنون ليلى حصل على محبوبته ليلى و تزوجها و تحقق له ما كان يحلم به لأفاق من جنونه تماما، و لعاد له عقله من أول لكمة فى الفراش من ليلاه العزيزة و هى تقول له: ابنك عنده اسهال .... و بنتك تقيئ طول الليل....و أنا طهقت....روح شوف أمك تشيل عنى العلل....أنا قرفت منك و من ولادك
قطعا كانت جميع الرؤى الشعرية و الأطياف الملائكية ستتبخر من دماغه، و يلعن اليوم الذى نظم فيه قصيدة أو كتب موالا
و لربما قام و هو يبرطم و يسب و جلس على باب الخيمة وأنشد قصيدة يلعن فيها القمر و الشجر و حياة مثل حياة البقر
و لكن الله لم يبلغه مراده لأنه أراد أن يكون للوهم ملوك يفتنون الناس، كما أراد أن يكون للحقيقة ملوك يوقظون الناس..... ليجرى امتحان النفوس فى عدالة بين شد و 
جذب الفريقين
آسف لهذه المقدمة الطويلة التى صدعت بها رأسك ... ولكنى أردت أن أثير فكرك قبل أن أقص عليك هذه القصة العجيبة
و بطل قصتنا طبيب جراح له أنامل موسيقية و روح موسيقية و هو يعيش بوجدان شاعر مرهف الإحساس ذواقة للجمال
و يمكن أن تتصور حياة رجل مثل بطلنا يعيش مع زوجة مثل كرة من اللحم  و الشحم ثرثارة ، بليدة الحس،غليظة الطبع، خاملة المشاعر ....حياة كان يقول عنها إنها أشبه بمصارعة الثيران
ثم يمكنك أن تتخيل ما يحدث حينما يقابل المرأة الأخرى ..  الفراشة فى رهافتها المانكان فى خطوتها، الموسيقية فى نبرتها، الملائكية فى روحها، النورانية فى طباعها، تلك التى كان يصفها بأنها قطرة ندى أو شعاع فجر
و يمكنك أن تتصور جنون كل منهما بالآخر
ثم دموع الاثنين و عذاب الاثنين فكل منهما متزوج
و هى لا تستطيع الفكاك دون دم و جراح وقطع أرحام
و هو لا يريدها أن تعبر إليه على أشلاء أحد، فلم يبق لهما إلا الصبر و الصلاة و انتظار المعجزة
و اعجب معى يا صاحبى فقد حدثت المعجزة وتدخلت السماء و مات الزوج، وطارت الحمامة رفافة الجناحين إلى ذراعى حبيبها 
لعلك توقعت مفاجأة مثل مفاجأة زواج قيس و ليلى لا يا صاحبى اطمئن
إن الطبيب العاشق يقول بنص كلماته: لقد وجدتها مث ما تصورت و أجمل ... وجدتها نورا مذابا و شفافية حلوة و خلقا متكاملا و ظلا ظليلا و واحة حب و جنة مصغرة على الأرض
و لعلك تسأل الآن : و أين المفاجأة؟
المفاجأة يا عزيزى كانت نقطة تافهة أهملها البطل و نسى أن يدرجها فى الحساب ...هى جنون السرعة
كانت البطلة مغرمة بجنون السرعة
 و كانت فى لحظات النشوة و السعادة تطلق لسيارتها العنان فيقفز مؤشر السرعة إلى 180 كيلومتر
و هكذا قفزت السيارة ذات مساء و ذات نزهة بريئة فى ضوء القمر عدة أمتار فى الهواء، ثم انقلبت لتدور حول نفسها عدة دورات
و خرج الطبيب من الأنقاض ليعيش بساقيين خشبيتين و ذراع صناعية
و هو الآن يتسائل على الدوام و هو يدفع بكرسيه ذى العجلات، ألم تكن حياته مع كرة اللحم و الشحم، الثرثارة، الخاملة المشاعر، الغليظة الطبع التى وصفها بأنها كانت حياة كمصارعة الثيران، أفضل بكثير مما كان ينتظره مع الفراشة، الملاك المانكان، الموسيقية النبرات
ألا يخطئ الإنسان أحيانا حينما يبسط المسائل و يتصور أن حياته مع تلك المرأة ستكون جنة، فلا يطلب من الدنيا غيرها و لا يرى فى الوجود مثلها و لا يتخيل كمالا إلا فيها
و هل يصح التبسيط فى مسائل معقدة ملغزة بطبيعتها مثل القدر و الإنسان 
ألا تبدو المسائل أعقد بكثير مما نتصور فيأتينا الخير أحيانا مما نكره، و يأتينا الشر مما نحب
قصة تبسيط المسائل من كتاب المسيخ الدجال للدكتور مصطفى محمود*

No comments:

Post a Comment